العنف بين الدولة والمجتمع: مقال للمفكر محمد سبيلا
قد لا يكون من اليسير على الباحث أن يكون موضوعيا ومحايدا في تناول موضوع حار كهذا: العنف، الدولة، والمجتمع في مغرب ما بعد الاستقلال، وذلك لأن هذه الواقعة كانت من الحدة الشمولية بحيث عمت كل مناحي الحياة السياسية والاجتماعية في المغرب، حيث طالت جل القطاعات، وجعلت الصراع السياسي العنيف يستقطب ويكيف على أشكال الصراع الأخرى. هذا إضافة إلى الطابع المأساوي الاجتماعي لهذه الظاهرة التي طالت نتائجها آلاف المصائر الفردية والجماعية.
لكن مع مرور الزمن ومع الوعي بضرورة اتخاذ المسافة الفكرية، إن لم يكن الوجدانية، الكافية تجاه هذا الواقع الذي طالت نتائجه كل القطاعات، وبخاصة الحقل السياسي لعدة عقود. يمكن مبدئيا أن نكون جميعا مدعوين للتفكير في واقعة العنف السياسي في بلادنا بقدر أكبر من الموضوعية، ووضع الأحكام السياسية والإيديولوجية المسبقة بين قوسين ولو مؤقتا، وربما الانفصال المنهجي المؤقت عن متخيل سياسي بكامله.
1 - نظرة شمولية إلى عنف هذه المرحلة
أول متطلبات الموضوعية هنا هو ضرورة النظر إلى عنف هذه المرحلة بشموليته. لقد كانت كمية العنف المصرفة والمعتملة والمختزلة في الحقل السياسي كبيرة كما وكيفا، وحجما(1) ووحدة، ابتداء من العنف الجسدي (تصفيات المقاومين وأعضاء جيش التحرير، وبعض فقهاء حزب الاستقلال، ومناضلي حزب الشورى والاستقلال)، إلى التمردات المتلاحقة (اليوسي-عدي وبيهي-الريف-الدار البيضاء 1972-1965 مولاي بوعزة، والناظور، وفاس...)، إلى الانقلابات والتظاهرات والاعتقالات والإبادات والإذابات والمؤامرات والمؤامرات المضادة، إلى العنف اللفظي والإيديولوجي الذي طبع لغة تلك الفترة ("الحكم الملكي المطلق"-"النظام الإقطاعي"...إلخ). لقد كان العنف "واقعة كلية" (fait total ) مستشرية ومتبادلة وحادة شملت كل أزمنة الجمر ومستوياتها، حيث "عسف السيف الحاد المسلط على الرقاب، وانهمار المطر الوابل الدماء في المغرب الجريح الذبيح وهلم شرا"(2).
أول متطلبات الموضوعية هنا هو ضرورة النظر إلى عنف هذه المرحلة بشموليته. لقد كانت كمية العنف المصرفة والمعتملة والمختزلة في الحقل السياسي كبيرة كما وكيفا، وحجما(1) ووحدة، ابتداء من العنف الجسدي (تصفيات المقاومين وأعضاء جيش التحرير، وبعض فقهاء حزب الاستقلال، ومناضلي حزب الشورى والاستقلال)، إلى التمردات المتلاحقة (اليوسي-عدي وبيهي-الريف-الدار البيضاء 1972-1965 مولاي بوعزة، والناظور، وفاس...)، إلى الانقلابات والتظاهرات والاعتقالات والإبادات والإذابات والمؤامرات والمؤامرات المضادة، إلى العنف اللفظي والإيديولوجي الذي طبع لغة تلك الفترة ("الحكم الملكي المطلق"-"النظام الإقطاعي"...إلخ). لقد كان العنف "واقعة كلية" (fait total ) مستشرية ومتبادلة وحادة شملت كل أزمنة الجمر ومستوياتها، حيث "عسف السيف الحاد المسلط على الرقاب، وانهمار المطر الوابل الدماء في المغرب الجريح الذبيح وهلم شرا"(2).
لكن الاعتراف بكون العنف كان لغة مختلف الأطراف، وإن بدرجات متفاوتة، يتطلب الكثير من الجهد النفسي والفكري لمحاولة وضع عناءات المرحلة مؤقتا بين قوسين، والتخلص من البقايا والترسبات النفسية، وردود الفعل الانعكاسية والشرطية لثقافة المعارضة، ولحدة سنوات الجمر، وذلك تمهيدا لفهم أعمق للمرحلة.
وسواء اعتبرنا هذا العنف الشامل مجرد عنف دفاعي أو عنفا هجوميا، سواء اعتبرناه عنف فعل أو عنف رد فعل (على الرغم من أن كل عنف يقدم نفسه على أنه عنف-مضاد (contre-violence ) أي مجرد رد فعل على عنف الطرف الآخر)، وسواء اعتبرناه عنفا عذبا (violence douce )، أو عنفا شرسا، وسواء كان عنفا مناسباتيا أو دوريا، أو عنفا انتظاميا وإيقاعيا ويوميا؛ فإن هناك واقعة موضوعية وهي أن عنف الدولة كان، دون شك، الأضخم والأقوى والأشرس والأشمل لكل المجالات، والوسائل، والأمكنة، والأشخاص، والثنايا.
لقد اختلطت في هذا العنف الشرس والشامل والمستقطب، بشكل رفيع وماكر، عناصر التنافس والصراع الإيديولوجي، والجيلي، والبطولي الفردي، والطبقي، والجهوي، والعرقي، والحزبي، واللغوي وغيرها.
2 - نظرة عامة إلى تقنيات العنف
هو أيضا عنف هشيمي من حيث انتقال أساليبه وتقنياته من مفرخها السياسي الأصلي إلى كل الحقول الأخرى: الحقل العمالي والنقابي (أقبية التعذيب في بنايات UMT في شارع الجيش الملكي بالدار البيضاء)، والطلابي(الصراع بين الفصائل UNEM (3) وبينه وبين UGEM )(4) والثقافي (صراعات الحقل الثقافي كما انعكست أصداؤها في اتحاد الكتاب) إلى غير ذلك، مما يدل على أن دورة العنف (circuit de violence ) كانت بقعة زيت متوسعة باستمرار جعلت العنف مكونا بنيويا أساسيا للنظام السياسي المغربي. لقد طالت شظايا العنف كل رموز الحركة الوطنية والتقدمية آنذاك كما طالت جل الفاعلين السياسيين، حيث أدخل معظمهم السجن أو عذب أو طورد بالطرود الملغومة، أو بحوادث السير، أو حكم عليه بالإعدام، أو طالته رصاصة طائشة (بلحسن الوزاني، والمهدي بن بركة، وعلي يعتة، وعبد الكريم غلاب، وعبد الرحمن اليوسفي، وعمر بن جلون، والفقيه البصري، وعبد الرحيم بوعبيد، ومحمد اليازغي...).
هو أيضا عنف هشيمي من حيث انتقال أساليبه وتقنياته من مفرخها السياسي الأصلي إلى كل الحقول الأخرى: الحقل العمالي والنقابي (أقبية التعذيب في بنايات UMT في شارع الجيش الملكي بالدار البيضاء)، والطلابي(الصراع بين الفصائل UNEM (3) وبينه وبين UGEM )(4) والثقافي (صراعات الحقل الثقافي كما انعكست أصداؤها في اتحاد الكتاب) إلى غير ذلك، مما يدل على أن دورة العنف (circuit de violence ) كانت بقعة زيت متوسعة باستمرار جعلت العنف مكونا بنيويا أساسيا للنظام السياسي المغربي. لقد طالت شظايا العنف كل رموز الحركة الوطنية والتقدمية آنذاك كما طالت جل الفاعلين السياسيين، حيث أدخل معظمهم السجن أو عذب أو طورد بالطرود الملغومة، أو بحوادث السير، أو حكم عليه بالإعدام، أو طالته رصاصة طائشة (بلحسن الوزاني، والمهدي بن بركة، وعلي يعتة، وعبد الكريم غلاب، وعبد الرحمن اليوسفي، وعمر بن جلون، والفقيه البصري، وعبد الرحيم بوعبيد، ومحمد اليازغي...).
3 -النظرة إلى العنف كقاعدة في العمل السياسي
يجب النظر إلى هذا العنف الشامل الذي أصبح قاعدة في العمل السياسي في مرحلة ما بعد الاستقلال، والذي أصبح صراعا حتى الموت (une lutte à mort )، باعتباره نتيجة محددات وعوامل موضوعية متراكمة في الحف السياسي، وذلك على خلفية عنف بنيوي شامل تمثل في التفكك التدريجي للبنيات التقليدية، ومداهمة بنيات اقتصادية جديدة، والتحول المتسارع للعلاقات والقيم السائدة في اتجاه هيمنة أكبر لعلاقات ومعايير الربع وقياس القيمة الذاتية للأشياء والأفعال والأفراد من خلال المردودية والربح، وتغلغل القيم التبادلية، ولكن كذلك باعتباره في التحليل الملموس نتيجة محددات وعوامل موضوعية متراكمة في الحقل السياسي.
أ – أول هذه المعطيات هو شساعة وضخامة مدارات الصراع: خيرات الاستقلال (عقارات-أراضي-شركات...)، وسلط الاستقلال (سواء تعلق الأمر بالسلط المحلية الصغيرة في الأحياء والمداشر، أو بالسلط والمناصب الكبيرة على المستويين المحلي والمركزي)، هذا إضافة إلى المدارات الرمزية والإيديولوجية والفكرية لتوجيه سياسة الدولة والمجتمع التي هي بالإضافة إلى كونها إحدى مدارات الصراع هي في الوقت نفسه أصداء وانعكاسات وأدوات له.
ب – تراكم خلافات وصراعات وقضايا لم تحسم خلال مرحلة النضال الوطني أو سويت بطرق لم ترض كل الأطراف، فبقيت جذورها مشتعلة تحت رماد "التسويات":
هل يتعين وقف العمليات الفدائية والدخول في مفاوضات مع فرنسا أم الاستمرار فيها لغاية تحرير الصحراء وتحرر الجزائر؟ وبخاصة أن فرنسا كانت تضغط في اتجاه إيقاف أو إدماج أو حل جيش التحرير الذي كان يعلن بتنسيق مع جبهة التحرير الجزائرية ضرورة مواصلة الكفاح حتى التحرير النهائي، إذ كانت فرنسا تحاول حل المشكلة المغربية للتفرغ لمواجهة المشكلة الجزائرية، كما ضغطت أمريكا (دعما لإسبانيا)، في اتجاه ضرورة إيقاف زحف جيش التحرير إلى الجنوب. ومن القضايا التي وقع حولها خلاف حاد مسألة لائحة "الخونة" والموقف منهم (إدماجهم في النظام السياسي والمؤسسات (كما حدث فعلا) أم استبعادهم معاقبتهم والموقف من القواعد العسكرية الأجنبية..إلخ.
ج – تشكل مراكز قوى ونفوذ قوية دخلت ولو بصمت في عملية تنافس حول الفعالية والنفوذ والقرار، حتى وإن كانت مسألة قيادة القصر الرمزية للنضال الوطني مسألة محسومة ومجمعا عليها: القصر أم الحزب، الحزب أم الأحزاب، الأحزاب أم المقاومة، المقاومة أم جيش التحرير، وذلك مع انقسام كليهما إلى مراكز نفوذ وولاءات مختلفة، في سياق تجاذب حاد ضمن الهيمنة الكلية لحزب الاستقلال على الحياة السياسية مع ما ولده ذلك من دينامية التشطير والانشطار التي حكمت الحياة السياسية والحزبية فيما بعد.
د – كان العنف قد فرض نفسه كحل بسبب انسداد نوافذ الحوار وانغلاق آفاق السلم الاجتماعي، لكن أيضا بسبب استشراء ثقافة العنف وسيكولوجية العنف المختزنتين والمتدفقتين إما عبر روافد إيديولوجية (النضال النقابي كشكل من أشكال الصراع الطبقي كما في إيديولوجية نقابة (CDT الفرنسية)، أو عبر روافد تاريخية (السيبة والتمرد على النظام المركزي أو عنف المخزن ذاته) (5) أو من خلال العنف الطري المتحدر والموروث من المقاومة وجيش التحرير ومن أصولهما الاجتماعية، والذي أصبح بمثابة سياق سياسي تحول فيه العنف المسلح الموجه ضد المستعمر إلى عنف داخلي؛ حيث السلاح ومنطق القوة هما الأداة الأساسية الحاضرة الحاسمة والفاعلة في الصراع السياسي إن لم يكن نموذجه وطريقه وطريقته.
يجب النظر إلى هذا العنف الشامل الذي أصبح قاعدة في العمل السياسي في مرحلة ما بعد الاستقلال، والذي أصبح صراعا حتى الموت (une lutte à mort )، باعتباره نتيجة محددات وعوامل موضوعية متراكمة في الحف السياسي، وذلك على خلفية عنف بنيوي شامل تمثل في التفكك التدريجي للبنيات التقليدية، ومداهمة بنيات اقتصادية جديدة، والتحول المتسارع للعلاقات والقيم السائدة في اتجاه هيمنة أكبر لعلاقات ومعايير الربع وقياس القيمة الذاتية للأشياء والأفعال والأفراد من خلال المردودية والربح، وتغلغل القيم التبادلية، ولكن كذلك باعتباره في التحليل الملموس نتيجة محددات وعوامل موضوعية متراكمة في الحقل السياسي.
أ – أول هذه المعطيات هو شساعة وضخامة مدارات الصراع: خيرات الاستقلال (عقارات-أراضي-شركات...)، وسلط الاستقلال (سواء تعلق الأمر بالسلط المحلية الصغيرة في الأحياء والمداشر، أو بالسلط والمناصب الكبيرة على المستويين المحلي والمركزي)، هذا إضافة إلى المدارات الرمزية والإيديولوجية والفكرية لتوجيه سياسة الدولة والمجتمع التي هي بالإضافة إلى كونها إحدى مدارات الصراع هي في الوقت نفسه أصداء وانعكاسات وأدوات له.
ب – تراكم خلافات وصراعات وقضايا لم تحسم خلال مرحلة النضال الوطني أو سويت بطرق لم ترض كل الأطراف، فبقيت جذورها مشتعلة تحت رماد "التسويات":
هل يتعين وقف العمليات الفدائية والدخول في مفاوضات مع فرنسا أم الاستمرار فيها لغاية تحرير الصحراء وتحرر الجزائر؟ وبخاصة أن فرنسا كانت تضغط في اتجاه إيقاف أو إدماج أو حل جيش التحرير الذي كان يعلن بتنسيق مع جبهة التحرير الجزائرية ضرورة مواصلة الكفاح حتى التحرير النهائي، إذ كانت فرنسا تحاول حل المشكلة المغربية للتفرغ لمواجهة المشكلة الجزائرية، كما ضغطت أمريكا (دعما لإسبانيا)، في اتجاه ضرورة إيقاف زحف جيش التحرير إلى الجنوب. ومن القضايا التي وقع حولها خلاف حاد مسألة لائحة "الخونة" والموقف منهم (إدماجهم في النظام السياسي والمؤسسات (كما حدث فعلا) أم استبعادهم معاقبتهم والموقف من القواعد العسكرية الأجنبية..إلخ.
ج – تشكل مراكز قوى ونفوذ قوية دخلت ولو بصمت في عملية تنافس حول الفعالية والنفوذ والقرار، حتى وإن كانت مسألة قيادة القصر الرمزية للنضال الوطني مسألة محسومة ومجمعا عليها: القصر أم الحزب، الحزب أم الأحزاب، الأحزاب أم المقاومة، المقاومة أم جيش التحرير، وذلك مع انقسام كليهما إلى مراكز نفوذ وولاءات مختلفة، في سياق تجاذب حاد ضمن الهيمنة الكلية لحزب الاستقلال على الحياة السياسية مع ما ولده ذلك من دينامية التشطير والانشطار التي حكمت الحياة السياسية والحزبية فيما بعد.
د – كان العنف قد فرض نفسه كحل بسبب انسداد نوافذ الحوار وانغلاق آفاق السلم الاجتماعي، لكن أيضا بسبب استشراء ثقافة العنف وسيكولوجية العنف المختزنتين والمتدفقتين إما عبر روافد إيديولوجية (النضال النقابي كشكل من أشكال الصراع الطبقي كما في إيديولوجية نقابة (CDT الفرنسية)، أو عبر روافد تاريخية (السيبة والتمرد على النظام المركزي أو عنف المخزن ذاته) (5) أو من خلال العنف الطري المتحدر والموروث من المقاومة وجيش التحرير ومن أصولهما الاجتماعية، والذي أصبح بمثابة سياق سياسي تحول فيه العنف المسلح الموجه ضد المستعمر إلى عنف داخلي؛ حيث السلاح ومنطق القوة هما الأداة الأساسية الحاضرة الحاسمة والفاعلة في الصراع السياسي إن لم يكن نموذجه وطريقه وطريقته.
4 - سلبيات وإيجابيات العنف أو العنف كدينامو سياسي
يرى رواد التفسير الدموي للتاريخ أن العنف هو مولدة التاريخ، وهو العملية التي تتحقق من خلاله تحولات التاريخ النوعية والانتقال من نظام مجتمعي إلى آخر.
ومن المؤكد أن شمولية العنف في المشهد السياسي المغربي لما يقارب ثلاثة عقود بعد الاستقلال بحدته وشراسته وانبعاثه من كل الجهات والأطراف بنسب متفاوتة، قد جعل العنف قاعدة أساسية في العمل السياسي، بل أصبح بمثابة محرك أساسي للحف السياسي. لكن هذا العنف من حيث هو تعبير عن صراع القوى والمصالح المختلفة، وبخاصة بعد أن أخذ يرتد على الدولة وعلى أجهزتها نفسها، فرض ضرورة التفكير في كيفية إيقافه أو تلطيفه أو الحد منه، بعد أن بلغ أعلى درجاته وأصبح بمثابة إعصار يتهدد كل الأطراف. وهذا ما حدث فعلا بعد الانقلاب الثاني حيث جرت ابتداء من عام 1972 على مستوى الدوائر العليا العديد من المشاورات والمناقشات المطولة بغية تشخيص ظاهرة العنف السياسي والبحث عن عللها البعيدة والتفكير في كيفية الحد منها.
وبعد طول تفكير وفحص تبلورت لدى الدوائر العليا في السلطة فكرة محورية مفادها أن "الاحتراق الداخلي" والصراع الشرس حول السلطة ناتج أساسا عن توقف مسلسل التحرر الوطني على الرغم من أن البلاد لم تستكمل كل جوانب الاستقلال وبخاصة الترابية منها، وأن السبيل الأساسي لإطفاء هذه الحرائق هو إعادة بلورة واستئناف مشروع التحرر الوطني بإعادة طرح قضايا استكمال الوحدة الترابية للمغرب، وبموازاة مع ذلك إطلاق وتفعيل عملية البناء السياسي الديمقراطي في اتجاه استدماج أكبر للنخب السياسية والحزبية على المستويين المحلي والوطني في إطار هذا المشروع المزدوج. وربما كانت وراء هذا التشخيص فكرة ذات وجهين: ضرورة تقنية (canalisation ) العنف نحو القضايا الوطنية الخارجية، وفي الوقت نفسه إيجاد بدائل حوارية عن العنف في الداخل عن طريق إرساء المسلسل الديمقراطي.
يرى رواد التفسير الدموي للتاريخ أن العنف هو مولدة التاريخ، وهو العملية التي تتحقق من خلاله تحولات التاريخ النوعية والانتقال من نظام مجتمعي إلى آخر.
ومن المؤكد أن شمولية العنف في المشهد السياسي المغربي لما يقارب ثلاثة عقود بعد الاستقلال بحدته وشراسته وانبعاثه من كل الجهات والأطراف بنسب متفاوتة، قد جعل العنف قاعدة أساسية في العمل السياسي، بل أصبح بمثابة محرك أساسي للحف السياسي. لكن هذا العنف من حيث هو تعبير عن صراع القوى والمصالح المختلفة، وبخاصة بعد أن أخذ يرتد على الدولة وعلى أجهزتها نفسها، فرض ضرورة التفكير في كيفية إيقافه أو تلطيفه أو الحد منه، بعد أن بلغ أعلى درجاته وأصبح بمثابة إعصار يتهدد كل الأطراف. وهذا ما حدث فعلا بعد الانقلاب الثاني حيث جرت ابتداء من عام 1972 على مستوى الدوائر العليا العديد من المشاورات والمناقشات المطولة بغية تشخيص ظاهرة العنف السياسي والبحث عن عللها البعيدة والتفكير في كيفية الحد منها.
وبعد طول تفكير وفحص تبلورت لدى الدوائر العليا في السلطة فكرة محورية مفادها أن "الاحتراق الداخلي" والصراع الشرس حول السلطة ناتج أساسا عن توقف مسلسل التحرر الوطني على الرغم من أن البلاد لم تستكمل كل جوانب الاستقلال وبخاصة الترابية منها، وأن السبيل الأساسي لإطفاء هذه الحرائق هو إعادة بلورة واستئناف مشروع التحرر الوطني بإعادة طرح قضايا استكمال الوحدة الترابية للمغرب، وبموازاة مع ذلك إطلاق وتفعيل عملية البناء السياسي الديمقراطي في اتجاه استدماج أكبر للنخب السياسية والحزبية على المستويين المحلي والوطني في إطار هذا المشروع المزدوج. وربما كانت وراء هذا التشخيص فكرة ذات وجهين: ضرورة تقنية (canalisation ) العنف نحو القضايا الوطنية الخارجية، وفي الوقت نفسه إيجاد بدائل حوارية عن العنف في الداخل عن طريق إرساء المسلسل الديمقراطي.
وبموازاة مع هذين الخطين الاستراتيجيين اللذين ختما مرحلة بكاملها ( 1975-1956 ) عادت السلطة إلى الاعتناء بالمجتمع السياسي وفتح الحوار مع الأحزاب والنقابات، وإفساح دور لها من جديد حتى لا تظل قناة لتقنية وضخ العنف إلى المجتمع وأجهزة الدولة.
وفي نهاية التسعينيات اضطرت الدولة، مع التحولات الداخلية والخارجية الجديدة، إلى الاعتراف بمسؤوليتها عن العنف، وأنشأت هيئة للإنصاف والمصالحة بغية ترميم بعض الأضرار والأعطاب والمآسي الناتجة عن مرحلة الجمر، واستنت سياسة استدماج المعارضة السابقة في دواليب الدولة عن طريق آلية التناوب الذي سخر في الوقت نفسه كآلية إضافية مساعدة في عملية انتقال السلطة بين عهدين.
وفي نهاية التسعينيات اضطرت الدولة، مع التحولات الداخلية والخارجية الجديدة، إلى الاعتراف بمسؤوليتها عن العنف، وأنشأت هيئة للإنصاف والمصالحة بغية ترميم بعض الأضرار والأعطاب والمآسي الناتجة عن مرحلة الجمر، واستنت سياسة استدماج المعارضة السابقة في دواليب الدولة عن طريق آلية التناوب الذي سخر في الوقت نفسه كآلية إضافية مساعدة في عملية انتقال السلطة بين عهدين.
5 - تساؤلات
أ – مدى مشروعية العنف
العنف كما يقول الأنتروبولوجيون هو الوقعة الأساسية المؤسسة للمجتمع حيث إن المجتمع والدولة هما المؤسستان الأساسيتين للحد من عنف الحالة الطبيعية للإنسان، والدخول إلى الحالة الاجتماعية التي هي حالة أقل عنفا أو حالة عنف ملطف، و"مشروع" يتنازل فيه الناس عبر "العقد الاجتماعي" (الدستور) عن العديد من صلاحياتهم وحقوقهم للدولة مقابل أن توفر لهم هذه الأخيرة الأمن والحرية والحماية ولو باستعمال العنف. ومن هذا المنظور يمكن أن يكون العنف مدانا من الزاوية الأخلاقية لكنه "مشروع"، وقد يكون مطلوبا من الزاوية السياسية لأنه جزء عضوي من الفعل السياسي، ويدخل في طبيعة العمل السياسي.
كان كلاوزفيتس (Clausewitz ) يقول إن الحرب هي مواصلة للسياسة بوسائل أخرى، لكن من الصحيح أيضا القول بأن السياسة مواصلة للحرب بوسائل أخرى، فالوجه الآخر للقول بأن الحرب سياسة قصوى هو أن السياسة شكل معدل من أشكال الحرب وقودها الأساسي هو العنف في مظهرية السافر والمقنع.
وفي ما يخص استعمال الدولة للعنف فإن العديد من المفكرين السياسيين يرون أن الدولة هي المؤسسة الوحيدة التي لها حق ومشروعية احتكار واستعمال العنف.
لكن هل حق استخدام العنف هو حق مشروع بالنسبة إلى كل أنماط الدولة بما في ذلك الدولة الثيوقراطية والكارزمية؟ أم فقط بالنسبة للدولة المشروعية المؤسسية الحديثة؟ وهل يجوز اعتبار العنف الذي تمارسه سلطة ترتكز على مشروعيات أخرى غير المشروعية المؤسسية الحديثة عنفا مشروعا؟، أو بمعنى آخر إن العنف السياسي الذي تمارسه الدولة يمكن أن يكون مشروعا فقط عندما يكون النظام السياسي نفسه قائما على أساس المشروعية المؤسسية الحديثة، أي على التمثيلية والانتخاب والحريات والتعددية وتداول السلطة وفصل السلط، إلى غير ذلك من مقومات الحداثة السياسية. فليس عنف الدولة مشروعا من وجهة نظر الفكر السياسي الحديث بمجرد امتلاك الدولة للقوة، لأن امتلاكها للقوة لا يولد آليا الحق المشروع في الاستعمال المفرط للقوة تجاه المجتمع لما يولده ذلك من شطط وانفلات وتجاوزات وانتهاك للمعايير الضابطة لوظائف وحدود السلطة نفسها.
قد يكون الجواب هنا أن جهاز الدولة في المغرب مارس أقصى درجات العنف السياسي، لأن الدولة كانت تعتقد أنها ترتكز على كتلة من المشروعيات: المشروعية الوطنية من حيث مساهمة القائمين عليها في تحرير الوطن قادت الكفاح ضد المستعمر؛ والمشروعية الدينية لأنها أطرت النضال الوطني ضد المستعمر تأطيرا دينيا وحافظت على الهوية الدينية واللغوية والروحية للأمة في بلد ما زال الناس فيه يعتبرون السلطان "ظل الله في الأرض". هذا إضافة إلى كل مظاهر المشروعية الكاريزمية ومظاهر المشروعية المؤسسية لحديثة التي توطدت بعد إقرار الدستور وإجراء الانتخابات البرلمانية والبلدية والقروية. وانطلاقا من ذلك تبلورت لدى السلطة قناعة مفادها أن جهاز الدولة، انطلاقا من تراكم حزمة المشروعيات لديه، هو الأعرف بالمصلحة العليا للدولة (La raison d’état )، والأحق بالدفاع عنها اعتمادا على كل الوسائل بما في ذلك استعمال العنف السافر.
أ – مدى مشروعية العنف
العنف كما يقول الأنتروبولوجيون هو الوقعة الأساسية المؤسسة للمجتمع حيث إن المجتمع والدولة هما المؤسستان الأساسيتين للحد من عنف الحالة الطبيعية للإنسان، والدخول إلى الحالة الاجتماعية التي هي حالة أقل عنفا أو حالة عنف ملطف، و"مشروع" يتنازل فيه الناس عبر "العقد الاجتماعي" (الدستور) عن العديد من صلاحياتهم وحقوقهم للدولة مقابل أن توفر لهم هذه الأخيرة الأمن والحرية والحماية ولو باستعمال العنف. ومن هذا المنظور يمكن أن يكون العنف مدانا من الزاوية الأخلاقية لكنه "مشروع"، وقد يكون مطلوبا من الزاوية السياسية لأنه جزء عضوي من الفعل السياسي، ويدخل في طبيعة العمل السياسي.
كان كلاوزفيتس (Clausewitz ) يقول إن الحرب هي مواصلة للسياسة بوسائل أخرى، لكن من الصحيح أيضا القول بأن السياسة مواصلة للحرب بوسائل أخرى، فالوجه الآخر للقول بأن الحرب سياسة قصوى هو أن السياسة شكل معدل من أشكال الحرب وقودها الأساسي هو العنف في مظهرية السافر والمقنع.
وفي ما يخص استعمال الدولة للعنف فإن العديد من المفكرين السياسيين يرون أن الدولة هي المؤسسة الوحيدة التي لها حق ومشروعية احتكار واستعمال العنف.
لكن هل حق استخدام العنف هو حق مشروع بالنسبة إلى كل أنماط الدولة بما في ذلك الدولة الثيوقراطية والكارزمية؟ أم فقط بالنسبة للدولة المشروعية المؤسسية الحديثة؟ وهل يجوز اعتبار العنف الذي تمارسه سلطة ترتكز على مشروعيات أخرى غير المشروعية المؤسسية الحديثة عنفا مشروعا؟، أو بمعنى آخر إن العنف السياسي الذي تمارسه الدولة يمكن أن يكون مشروعا فقط عندما يكون النظام السياسي نفسه قائما على أساس المشروعية المؤسسية الحديثة، أي على التمثيلية والانتخاب والحريات والتعددية وتداول السلطة وفصل السلط، إلى غير ذلك من مقومات الحداثة السياسية. فليس عنف الدولة مشروعا من وجهة نظر الفكر السياسي الحديث بمجرد امتلاك الدولة للقوة، لأن امتلاكها للقوة لا يولد آليا الحق المشروع في الاستعمال المفرط للقوة تجاه المجتمع لما يولده ذلك من شطط وانفلات وتجاوزات وانتهاك للمعايير الضابطة لوظائف وحدود السلطة نفسها.
قد يكون الجواب هنا أن جهاز الدولة في المغرب مارس أقصى درجات العنف السياسي، لأن الدولة كانت تعتقد أنها ترتكز على كتلة من المشروعيات: المشروعية الوطنية من حيث مساهمة القائمين عليها في تحرير الوطن قادت الكفاح ضد المستعمر؛ والمشروعية الدينية لأنها أطرت النضال الوطني ضد المستعمر تأطيرا دينيا وحافظت على الهوية الدينية واللغوية والروحية للأمة في بلد ما زال الناس فيه يعتبرون السلطان "ظل الله في الأرض". هذا إضافة إلى كل مظاهر المشروعية الكاريزمية ومظاهر المشروعية المؤسسية لحديثة التي توطدت بعد إقرار الدستور وإجراء الانتخابات البرلمانية والبلدية والقروية. وانطلاقا من ذلك تبلورت لدى السلطة قناعة مفادها أن جهاز الدولة، انطلاقا من تراكم حزمة المشروعيات لديه، هو الأعرف بالمصلحة العليا للدولة (La raison d’état )، والأحق بالدفاع عنها اعتمادا على كل الوسائل بما في ذلك استعمال العنف السافر.
ب – حق الصفح وواجب الاعتذار
التساؤل عن حق الاستعمال المفرط للعنف يحيلنا على حق آخر هو حق الصفح، فمن له حق الصفح (le droit de pardonner )؟ هل هم المتضررون المباشرون أم عائلاتهم القرابية أم عائلاتهم السياسية؟ هل هي الأحزاب والنقابات والجمعيات المدنية؟ أم ممثلو الأمة في الغرفتين أم الجمعيات الحقوقية؟ وكيف يتم ذلك؟ هل يتم بعد اعتراف واعتذار الطرف المعانف أم من دون تحقق هذا الشرط؟ وهل يتعين القيام بالصفح قبل محاسبة ومعاقبة المسؤولين المباشرين عن الانتهاكات والتعذيبات والآلام؟ وهل المحاسبة والمعاقبة يتعين أن تتقصد الفاعلين التنفيذيين المباشرين أم سدنتهم ورؤساءهم في السلم الإداري صعودا وهبوطا؟ وكيف تتم المحاسبة: هل بالمحاكمة أم بلجان تحقيق؟ وهل تنتهي بالقصاص؟ أي بجزاء عقابي، أم بمجرد الإقرار والتدوين وتسجيل الوقائع وتحميل المسؤوليات؟ وما قيمة محاكمة من دون جزاء؟ بل هل يمكن ويجوز معنويا وأخلاقيا الصفح عما لا يصح أو يجب الصفح فيه، أي عما لا يقبل الصفح أصلا لأنه عدوان وجودي على الحياة وعلى الحقوق الأساسية للفرد، عدوان يلحق بالفرد أضرارا وأعطابا عضوية ونفسية ومعنوية لا مجال للتسامح بصددها، ولا يجوز الصفح والعفو عنها بأية حال وتحت أي مبرر. إذ كيف يمكن الصفح عما لا يقبل الصفح وكيف نصفح دون أن نمحو الذاكرة (Amnistier sans amnésier ) لأن محو الذاكرة قد يقود إلى تكرار الفظائع، أما التذكر المر المتسامح فقد يصبح تعويذة وقائية في وجه المداهمة والمعاودة الدورية للفظاعات.
والشق الثاني من هذه الإشكالات يتعلق بالطرف الذي مارس أقصى وأقسى درجات العنف: هل هي الدولة الممثلة في أعلى سلطاتها السياسية أم الأجهزة القمعية للدولة أم أجهزتها التشريعية أم السلطة التنفيذية ككل؟ وهل ليس في ذلك مساس بصدقية الدولة وبهيبتها؟ وهب يتعين عليها الإقرار والاعتراف أم الاعتذار وطلب الصفح والغفران؟ فمن عليه إذا واجب الاعتذار والاعتراف وطلب الصفح والغفران؟ وما هي الحدود التي يمكن ويجب أن يصل إليها؟
ومقابل ذلك من هي الجهة ذات الصلاحية في ممارسة دور الحكم والقيام بمحاكمة ومحاسبة الفاعلين: هل هي الهيئة القضائية العادية أم هيئات قضائية جديدة مستحدثة؟ وفي هذه الحال وفق أية مرجعية قانونية؟ ومن هي الشخصيات والهيئات القانونية المؤهلة لتمثيل المتضررين والمجتمع ككل للحسم في هذه القضايا التي لا تخلو من حساسية وإحراج؟ وما الطبيعة النهائية لهذه المحاكمة، هل هي محاكمة قضائية أم سياسية أم محاكمة تاريخية؟ وهل مقصدها وحافزها هو روح الانتقام والدَّحْل والضغينة (le ressentiment ) أم تربية الحس الوطني وإذكاء الوعي التاريخي؟
التساؤل عن حق الاستعمال المفرط للعنف يحيلنا على حق آخر هو حق الصفح، فمن له حق الصفح (le droit de pardonner )؟ هل هم المتضررون المباشرون أم عائلاتهم القرابية أم عائلاتهم السياسية؟ هل هي الأحزاب والنقابات والجمعيات المدنية؟ أم ممثلو الأمة في الغرفتين أم الجمعيات الحقوقية؟ وكيف يتم ذلك؟ هل يتم بعد اعتراف واعتذار الطرف المعانف أم من دون تحقق هذا الشرط؟ وهل يتعين القيام بالصفح قبل محاسبة ومعاقبة المسؤولين المباشرين عن الانتهاكات والتعذيبات والآلام؟ وهل المحاسبة والمعاقبة يتعين أن تتقصد الفاعلين التنفيذيين المباشرين أم سدنتهم ورؤساءهم في السلم الإداري صعودا وهبوطا؟ وكيف تتم المحاسبة: هل بالمحاكمة أم بلجان تحقيق؟ وهل تنتهي بالقصاص؟ أي بجزاء عقابي، أم بمجرد الإقرار والتدوين وتسجيل الوقائع وتحميل المسؤوليات؟ وما قيمة محاكمة من دون جزاء؟ بل هل يمكن ويجوز معنويا وأخلاقيا الصفح عما لا يصح أو يجب الصفح فيه، أي عما لا يقبل الصفح أصلا لأنه عدوان وجودي على الحياة وعلى الحقوق الأساسية للفرد، عدوان يلحق بالفرد أضرارا وأعطابا عضوية ونفسية ومعنوية لا مجال للتسامح بصددها، ولا يجوز الصفح والعفو عنها بأية حال وتحت أي مبرر. إذ كيف يمكن الصفح عما لا يقبل الصفح وكيف نصفح دون أن نمحو الذاكرة (Amnistier sans amnésier ) لأن محو الذاكرة قد يقود إلى تكرار الفظائع، أما التذكر المر المتسامح فقد يصبح تعويذة وقائية في وجه المداهمة والمعاودة الدورية للفظاعات.
والشق الثاني من هذه الإشكالات يتعلق بالطرف الذي مارس أقصى وأقسى درجات العنف: هل هي الدولة الممثلة في أعلى سلطاتها السياسية أم الأجهزة القمعية للدولة أم أجهزتها التشريعية أم السلطة التنفيذية ككل؟ وهل ليس في ذلك مساس بصدقية الدولة وبهيبتها؟ وهب يتعين عليها الإقرار والاعتراف أم الاعتذار وطلب الصفح والغفران؟ فمن عليه إذا واجب الاعتذار والاعتراف وطلب الصفح والغفران؟ وما هي الحدود التي يمكن ويجب أن يصل إليها؟
ومقابل ذلك من هي الجهة ذات الصلاحية في ممارسة دور الحكم والقيام بمحاكمة ومحاسبة الفاعلين: هل هي الهيئة القضائية العادية أم هيئات قضائية جديدة مستحدثة؟ وفي هذه الحال وفق أية مرجعية قانونية؟ ومن هي الشخصيات والهيئات القانونية المؤهلة لتمثيل المتضررين والمجتمع ككل للحسم في هذه القضايا التي لا تخلو من حساسية وإحراج؟ وما الطبيعة النهائية لهذه المحاكمة، هل هي محاكمة قضائية أم سياسية أم محاكمة تاريخية؟ وهل مقصدها وحافزها هو روح الانتقام والدَّحْل والضغينة (le ressentiment ) أم تربية الحس الوطني وإذكاء الوعي التاريخي؟
ج – من عنف السيبة(5) إلى عنف النظام
من المؤكد أن العنف ليس معطى جديدا أو طارئا على البنية الاجتماعية والسياسية في مجتمعنا المغربي، فتاريخنا حافل بالعنف، بل إن تاريخنا هو إلى حد كبير تاريخ العنف والصراع كما تشهد على ذلك أسوار المدن، وتراثنا الزاخر بالسيوف والفروسية والحصون والقلاع والأقبية ومطامر السجون وعلامات التعذيب، الباقية آثارها في الحصون وبقايا بعض القصور التاريخية. ومن المؤكد أن هذا العنف التقليدي في مظاهره العشوائية هو عنف مرتبط بالصراع على الخيرات في مجتمع الندرة؛ عنف متبادل بين السلطة في المركز أو السلط المفوضة لحكام الأقاليم والجهات من جهة، وبين القبائل من جهة ثانية. أما العنف العصري الذي بدا مع الدولة الاستعمارية، فهو عنف منظم ومؤسسي وتقني وفعال. وقد ورثت الدولة العصرية الحديثة في المغرب في جملة موروثاتها الترسانة العسكرية والتنظيمية والقانونية، و"التقاليد" المؤطرة لهذا الضرب الجديد العصري من العنف.
لكن إذا كانت تعلات العنف الاستعماري هي التهدئة (La Pacification )، وإقرار النظام من أجل تطبيق "الإصلاحات" وممارسة مهمة "التحضير"، فإن عنف الدولة الوطنية - بما يستند إليه من خلفيات ومشروعيات يتداخل فيها البعد الوطني التحرري بالبعد الديني، وبالبعد العصري- يعاش في المتخيل السياسي للفاعل كعنف مؤسس (Violence fondatrice )، أي عنف تأسيسي للدولة الحديثة والمنظمة والعصرية والفارضة للقانون، والمتطلبة ولاء الجميع في إطار دولة القانون (l’Etat de droit ). وإضافة إلى ذلك فإن عنف الدولة الوطنية الحديثة في المغرب كان يعتبر نفسه في حالة دفاع عن المؤسسات والمقدسات والنظام العام، أي أنه مجرد عنف دفاعي مشروع عن النفس ضد كل أشكال العنف المضاد التي يمارسها المجتمع أو بعض هيئاته، أو بعض أفراده، ومن ثمة طابعه الطقوسي والتطهري (Cathartique )، والتطهيري، بل الانتشائي أحيانا.
كانت الدولة قبل ذلك قد دشنت انطلاق المسلسل الديمقراطي كوسيلة مبكرة لامتصاص العنف ولاستبدال العنف السافر بالعنف السياسي القائم على الحوار الديمقراطي المقنن والمؤطر في هيئات ومؤسسات وضوابط قانونية، وذلك انطلاقا من الاقتناع بأن الديمقراطية هي الوسيلة الوحيدة لنزع فتيل العنف من المجتمع ومن الحقل السياسي، ولتحويل الصراع السياسي من لغة الحرب إلى حرب اللغة.
وبعد التسعينيات بادرت الدولة إلى الاعتراف بالذنب السياسي وإلى الاعتذار رسميا عن النتائج العشوائية للعنف، وأنشأت من أجل ذلك هيئة للإنصاف والمصالحة، وأقرت مبدأ التعويض المادي...
فهل نجح المغرب في مسعى نزع فتائل العنف السياسي ببدائل ديمقراطية؟ أو على الأقل إلى تذويب العنف العمودي في عنف أفقي؟ هذا سؤال حاد لا يملك أي واحد منا عنه جوابا حاسما ونهائيا الآن.
إلا أن المعطى الجديد هو أنه تتحقق اليوم مع العهد الجديد، نقلة نوعية في النظام السياسي المغربي لأنه لم يعد طرفا في الصراع السياسي، بل إنه ببعده الزمني والحدثي عن تلك الأحداث والصراعات وعن تلك الأجيال، وعن كل هذه المعطيات التي أقحمت الدولة سابقا في صراع سياسي طاحن، تتوافر له كل شروط ومظاهر الحكم (Le Juge ) الذي تتساوى أمامه كل الأطراف، وبالتالي تتوافر له شروط تقوية السلم الاجتماعي والدفع بأولوية القانون والمؤسسات، ودمقرطة الحياة السياسية، أي بكل المعطيات والعناصر التي تؤمن تحويل طاقة العنف إلى دائرة الحوار السياسي والنقاش والإجراءات القانونية السلمية.
ولعل هذا هو الرهان السياسي العسير للعقود القادمة: الانتقال من بقايا القبلية والسيبة (ذات الاتجاهين) والعنف العشوائي الشرس، إلى رحاب الدولة الديمقراطية الحديثة، دولة القانون والنقاش العمومي الحر، بعيدا عن لغة السلاح.
فهل نحن قادرون، مجتمعا ونخبا ودولة، على مواجهة وكسب هذا الرهان التاريخي الكبير؟ وعلى إنجاز "الانتقال" الناجح من الحالة الطبيعية إلى الحالة الاجتماعية؟ أي من حالة الرعب والرهبة إلى حالة الصراع السياسي السلمي؟
من المؤكد أن العنف ليس معطى جديدا أو طارئا على البنية الاجتماعية والسياسية في مجتمعنا المغربي، فتاريخنا حافل بالعنف، بل إن تاريخنا هو إلى حد كبير تاريخ العنف والصراع كما تشهد على ذلك أسوار المدن، وتراثنا الزاخر بالسيوف والفروسية والحصون والقلاع والأقبية ومطامر السجون وعلامات التعذيب، الباقية آثارها في الحصون وبقايا بعض القصور التاريخية. ومن المؤكد أن هذا العنف التقليدي في مظاهره العشوائية هو عنف مرتبط بالصراع على الخيرات في مجتمع الندرة؛ عنف متبادل بين السلطة في المركز أو السلط المفوضة لحكام الأقاليم والجهات من جهة، وبين القبائل من جهة ثانية. أما العنف العصري الذي بدا مع الدولة الاستعمارية، فهو عنف منظم ومؤسسي وتقني وفعال. وقد ورثت الدولة العصرية الحديثة في المغرب في جملة موروثاتها الترسانة العسكرية والتنظيمية والقانونية، و"التقاليد" المؤطرة لهذا الضرب الجديد العصري من العنف.
لكن إذا كانت تعلات العنف الاستعماري هي التهدئة (La Pacification )، وإقرار النظام من أجل تطبيق "الإصلاحات" وممارسة مهمة "التحضير"، فإن عنف الدولة الوطنية - بما يستند إليه من خلفيات ومشروعيات يتداخل فيها البعد الوطني التحرري بالبعد الديني، وبالبعد العصري- يعاش في المتخيل السياسي للفاعل كعنف مؤسس (Violence fondatrice )، أي عنف تأسيسي للدولة الحديثة والمنظمة والعصرية والفارضة للقانون، والمتطلبة ولاء الجميع في إطار دولة القانون (l’Etat de droit ). وإضافة إلى ذلك فإن عنف الدولة الوطنية الحديثة في المغرب كان يعتبر نفسه في حالة دفاع عن المؤسسات والمقدسات والنظام العام، أي أنه مجرد عنف دفاعي مشروع عن النفس ضد كل أشكال العنف المضاد التي يمارسها المجتمع أو بعض هيئاته، أو بعض أفراده، ومن ثمة طابعه الطقوسي والتطهري (Cathartique )، والتطهيري، بل الانتشائي أحيانا.
كانت الدولة قبل ذلك قد دشنت انطلاق المسلسل الديمقراطي كوسيلة مبكرة لامتصاص العنف ولاستبدال العنف السافر بالعنف السياسي القائم على الحوار الديمقراطي المقنن والمؤطر في هيئات ومؤسسات وضوابط قانونية، وذلك انطلاقا من الاقتناع بأن الديمقراطية هي الوسيلة الوحيدة لنزع فتيل العنف من المجتمع ومن الحقل السياسي، ولتحويل الصراع السياسي من لغة الحرب إلى حرب اللغة.
وبعد التسعينيات بادرت الدولة إلى الاعتراف بالذنب السياسي وإلى الاعتذار رسميا عن النتائج العشوائية للعنف، وأنشأت من أجل ذلك هيئة للإنصاف والمصالحة، وأقرت مبدأ التعويض المادي...
فهل نجح المغرب في مسعى نزع فتائل العنف السياسي ببدائل ديمقراطية؟ أو على الأقل إلى تذويب العنف العمودي في عنف أفقي؟ هذا سؤال حاد لا يملك أي واحد منا عنه جوابا حاسما ونهائيا الآن.
إلا أن المعطى الجديد هو أنه تتحقق اليوم مع العهد الجديد، نقلة نوعية في النظام السياسي المغربي لأنه لم يعد طرفا في الصراع السياسي، بل إنه ببعده الزمني والحدثي عن تلك الأحداث والصراعات وعن تلك الأجيال، وعن كل هذه المعطيات التي أقحمت الدولة سابقا في صراع سياسي طاحن، تتوافر له كل شروط ومظاهر الحكم (Le Juge ) الذي تتساوى أمامه كل الأطراف، وبالتالي تتوافر له شروط تقوية السلم الاجتماعي والدفع بأولوية القانون والمؤسسات، ودمقرطة الحياة السياسية، أي بكل المعطيات والعناصر التي تؤمن تحويل طاقة العنف إلى دائرة الحوار السياسي والنقاش والإجراءات القانونية السلمية.
ولعل هذا هو الرهان السياسي العسير للعقود القادمة: الانتقال من بقايا القبلية والسيبة (ذات الاتجاهين) والعنف العشوائي الشرس، إلى رحاب الدولة الديمقراطية الحديثة، دولة القانون والنقاش العمومي الحر، بعيدا عن لغة السلاح.
فهل نحن قادرون، مجتمعا ونخبا ودولة، على مواجهة وكسب هذا الرهان التاريخي الكبير؟ وعلى إنجاز "الانتقال" الناجح من الحالة الطبيعية إلى الحالة الاجتماعية؟ أي من حالة الرعب والرهبة إلى حالة الصراع السياسي السلمي؟
هوامش
1 - يذكر السيد بنزكري رئيس هيئة الإنصاف والمصالحة في ندوته الصحفية يوم 15 أبريل 2004 أن حجم الانتهاكات بلغ إلى حدود ذلك اليوم عشرين ألف ملف. انظر: الشرق الأوسط، 2004/4/17 .
2 - إدريس الملياني، سنديانة الشعراء: قراءات وشهادات (الدار البيضاء: دار الثقافة، 2004 )، ص 18 .
3 - (UNEM ) الاتحاد الوطني لطلبة المغرب: التنظيم الطلابي الأساسي في المغرب منذ إعلان الاستقلال.
4 - (UGEM ) تنظيم نقابي طلابي تابع لحزب الاستقلال.
5 - تشير كلمة "السيبة" في المصطلح المغربي إلى النزعات التمردية للقبائل البدوية ضد الحكم المركزي وضد القبائل الأخرى كما تدل كلمة "المخزن" على نظام السلطة التقليدي في المغرب.
2 - إدريس الملياني، سنديانة الشعراء: قراءات وشهادات (الدار البيضاء: دار الثقافة، 2004 )، ص 18 .
3 - (UNEM ) الاتحاد الوطني لطلبة المغرب: التنظيم الطلابي الأساسي في المغرب منذ إعلان الاستقلال.
4 - (UGEM ) تنظيم نقابي طلابي تابع لحزب الاستقلال.
5 - تشير كلمة "السيبة" في المصطلح المغربي إلى النزعات التمردية للقبائل البدوية ضد الحكم المركزي وضد القبائل الأخرى كما تدل كلمة "المخزن" على نظام السلطة التقليدي في المغرب.
تعليقات
إرسال تعليق