شرود في ذهب مسروق
لم يسبق لي أن زرت جمهورية مصر العربية،رغم أنني دعيت لذلك من داخل المغرب، و تلقيت دعوات من أصدقاء مصريين، تجار رخام و مثقفين ،تجمعني بهم علاقات مختلفة، كل فئة في مجالها....كنت أتذرع كثيرا بقلة الحاجة، و أن السياحة خارج المغرب ترف معنوي، على اعتبار أنني يجب أن أتعرف أولا على هذا البلد الذي ابتلينا به و أبتلي بنا، ثم تأتي بعد ذلك البلدان حسب الترتيب الإيديولوجي المتحكم في ذهني لحظتها،إذ كنت أفكر زيارة موسكو و كييف حين كنت ستالينيا، و بيكين حين تحولت من الستالينية للماوية،ثم بعدها مصر و سوريا بعد أن انتقلت للناصرية و البعثية....أما الآن فلأني عبثيا أكثر مني بعثيا فإنني أفضل زيارة مولاي بوسلهام و جامع الفنا و حلمي الكبير أن أذهب لزاكورة.....
كنت أعتبر السياحة خارج المغرب، ترف مادي أيضا، رغم أن السائرون بشكل مكوكي بين المغرب و مصر من المغاربة، و الأصدقاء المصريين، كانوا يؤكدون لي أن مستوى العيش ببلاد الكنانة منخفض بشكل ملفت للانتباه،و أن السفر لهناك لن يكلف ربما مصاريف العيش العادية هنا.....كان صديق لي مهووس بالحساب، يشرح لي كيف يمكنني أن أقضي اليوم بكامله بأقل من سبعة دراهم مصاريف الأكل، و أن المبيت في أحسن الفنادق لا يكلف أكثر من مائة درهم....
ما جعلني استعيذ هذا الهذيان،خبر منشور في جرائد عديدة، و في وسائل إعلامية مسموعة و مرئية،تفيد أن النائب العام المصري، المكلف بالكسب الغير المشروع،حصل على وثائق تفيد أن السيد جمال حسني مبارك،و الذي يحمل وحده اسم الرئيس اللاحق المخلوع،ابن السيد محمد حسني مبارك،الرئيس المصري الفعلي المخلوع،سحب من البنوك الأمريكية،بواسطة شركات وهمية، ما قيمته 75 طن (خمسة و سبعين طنا) من الذهب الخالص،و للذين لا يفقهون في علم الحساب الكثير، و تغشى أبصارهم إذ يسمعون أرقاما،سماها الأدباء بالفلكية،نوضح لهم أن الكمية تعني 75 ألف كيلوغرام من الذهب الخالص،أي 75 مليون غرام من ذات الذهب....
لمزيد من المعلومات التقنية، فالذهب الخاص هو ما يصطلح عليه أبو أربعة و عشرين قيراط،و القيراط أصلا هو إسم حبوب الخروب التي كانت تستعمل في عهد اليونان لقياس المواد الثمينة، و أصبحت معيارا لقياس الذهب و البلاتين....
لا أعرف الذهب إلا على شكل سبائك،خواتم أصابع و أقراط أذن ، و أساور يد، و سلاسل تعلق في العنق،و قد صادف أن تعرفت على الكثير منها، بحكم ارتباطي بنساء كثيرات في حياتي،يشكل هذا المعدن معيارا لمدى ارتباط الرجل بهن، بدءا من والدتي التي كانت تتأسف للأموال التي يهدرها والدي في شرب الخمر،و تتمنى أن يحولها لسبيكة،ظاهر هدفها الادخار" لدواير الزمان"، و باطنها حبها ككل النساء لهذا المعدن وانتهاءا بالصديقات و الزوجات اللواتي شاءت لي الأقدار أن أرتبط بهن...
لا يوجد في سوق السبائك الذهبية ،ذهب خالص، أي 24 قيراط،لأنه ببساطة شديدة هو ذهب لين، و يضطر الصاغة لخلطه بمعادن أخرى ليكتسب الصلابة المنشودة....ما هو موجود هو ذهب 18 قيراط، و الذي يعني أن الكتلة منه مكونة من 6 أجزاء من المعادن الأخرى، و 18 جزء من الذهب الخالص....بمعنى أن السيد جمال مبارك، سحب ما قيمته مائة طن من الذهب الصالح لصياغة سبائك لتزيين النساء...
يتجاوز ثمن الغرام من ذهب السبائك، المائة و خمسين درهما،مما يعني أن القيمة المسحوبة هي 15000000000 درهم،15 مليار درهم و هو تقريبا نفس المبلغ المطلوب لتنفيذ العرض الحكومي المغربي في إطار الحوار الاجتماعي....كما أن الكمية المسحوبة صالحة لصياغة أربعة ملايين سبيكة من معدل وزن 25 غرام للسبيكة....كما أن الكثلة المسحوبة هي حمولة أربعة شاحنات كبيرة المخصصة للرمال (الرموك).....لا أعتقد أنها سهلة على المخيال.
لم استطع إكمال لعبة التحويل هذه، و البحث عن قيمتها بالجنيه المصري، و كم من وجبة كوشري و فول مدمس يمكن شراءه بها و غيرها من التحويلات التي تستقيم و خواء البطن و فقر الخيال....
فقط افهم لماذا رفض حسني مبارك التخلي عن الكرسي....و أفهم كيف فعل ذلك مضطرا....و أفهم قبل هذا كيف أطلق الجمال و الجياد على المتظاهرين في ميدان التحرير....
أفهم كذلك أن في غير مصر،في أوطان عربية عديدة،و منها بلدنا،تستطيع كل النساء، بمن فيهن أمي، أن يرتدين السبائك التي يشتهينها،فقط إذا لم يكن الذهب خالصا بقيراطاته،و خالصا لناهبيه...
تعليقات
إرسال تعليق