شذرات مارقة من وحي مهرجان الأغنية الصوفية
منذ أن تعرفت على الفنانة الكبيرة،كريمة الصقلي،كصوت متفرد قل أن أنجبت هذه البلاد مثله في تاريخ غنائها المعاصر،و أنا مشدوه من جهة لهذا الصوت و غاضب اتجاه الاهتمام الذي يوليه الإعلام المتخلف الذي ابتلينا به،للأصوات السمجة التي تصك آذاننا ليل نهار في قنوات التلفزة و الإذاعات ،دون أصوات تشدو الجمال و الروعة...
قررت حينها، بأن تكون كريمة الصقلي فنانتي المفضلة، فقط وجدت نفسي قد جاوزت سن المراهقة بكثير، مما لم يسمح لي بتعليق صورها ، بالحجم الكبير في جدران حائطي، و لا ارتداء فانلات مطبوعة عليها صورها،و لا الجري وراء أخبارها الفنية و الاجتماعية و العاطفية....
قررت فقط الاستماع لأغانيها،و متابعة أخبارها بشكل يومي، و قررت كذلك حضور حفلاتها....
كانت أولى حفلاتها بعد قراري هذا للأسف في قرطبة و بعدها في أمريكا و دول الخليج، و هو ما تعذر معه تنفيذ ما قررته....إلا أن تم اختيارها للافتتاح مهرجان الأغنية الصوفية بمدينة فاس لهذه السنة....لذا قررت أن أحضر الحفلة و أن اشبع تلك الرغبة في رؤية فنانتي و هي تصدح بصوتها الملائكي و بشكل مباشر....
كان بالإمكان الحصول على دعوة مجانية لحضور الحفل،لكنني قررت اقتناء التذكرة،لاعتبار مبدئي و هو أن أدنى شكل للتضامن مع فنان نحبه، و من أجل استقامة هذا المشهد الفني المخرب أصلا، يجب القطع مع سلوك الريع، و هذا الأخير يتبدى لي جليا في الدعوات المجانية و التي يستفيد منها أساسا المسؤولين، و ذووا الإمكانات المادية الكبيرة، بينما الفنان يرزح تحت وطأة الحاجة و قلة الإمكانيات بسبب هذا السلوك أساسا...
توجهت رأسا لمدينة فاس،يوم افتتاح المهرجان بمتحف البطحاء،و قبل سويعات من ذات الحفل،لا توجد علامات تشوير لهذا المهرجان، لا لافتات و لا لوحات إشهارية...كأن المدينة الروحية تستحي احتضانها لهذا الزفير الروحي.....
قاعة العرض مصففة بعناية، الصف الأمامي مخصص لكبار المسؤولين،الذين يحضرون الحفل بدعوات مجانية،كان لافتا حضور السيد وزير العدل و حرمه،السيد الضحاك الأمين العام للحكومة، و رئيس المجلس الأعلى للقضاء سابقا....
أدركت أن القضاء في بلدنا، ربما يحتاج لنفحة روحية تعينه على الصبر الجليل،كي يستقيم إن كانوا يهدفون لاستقامته...
كان لافتا أيضا غياب السيد حميد شباط،عمدة المدينة العلمية،وهو الغياب المنسجم و برودة الاحتفاء المظهري بهذا الحفل،لربما عمدة المدينة مشبع بالروحيات، ما دام بشَر منذ زمن، و قبل موعد المهرجان، بتطبيق الشريعة الإسلامية في إمارة فاس،و حارب على إثرها الشيشة و بيع الخمور،و استل من كتب التاريخ ما يفيد قدسية المدينة،و كيف تناولها الأنبياء و الرسل، و سارت بذكرها الكتب السماوية جميعها....
أو لربما، و هذا هو الأرجح، أن اختيارات العمدة الموسيقية لا تستسيغ هذا النوع من الموسيقي، بل تمتح مما تربى عليه لحين اشتداد عوده،و هو يصلح عجلات الدراجات، و من شب على شيء شاب عليه،فنجده يفضل "الجرة" و الكنبري و الأغاني التي تشيد بالخصر و ما تحته.....
كان الحضور غير الذي أألفه في العادي من حياتي اليومية، رجال تبدو النعمة على محياهم، و تفسر عيونهم و انتفاخ خدودهم، حاجتهم لهذا الهروب الروحي،و نساء مخمليات،من أعمار مختلفة لكن يوحدهن هذا الانتماء الفئوي الميسور،خليط من العطور الباريسية المختلفة، بين المثير و المشتهى و الخفيف،و كرنفال من اللباس العصري المتنطع في حداثته و التقليدي المتطرف في صنعته....
استحضرت حاستي الحسابية الماكرة، و قدرت أن قيمة الحضور هنا،باحتساب الملابس و العطور و الحلي، قد تجاوز المليار درهم،و حز في النفس أن نصف هذا الحضور جاء بدعوات مجانية،و أنه على يسر حاله، لم يكن ليأتي لو طلب منه اقتناء تذكرة دخول بربع قيمة زجاجة عطر يستعملها....
افتتح العرض بنوبة لفرقة موسيقية قرطبية، تدعى الكوثر،رتلت فيها جزء من سورة مريم، و غنت قصائد لإبن العربي،و ختمت بترتيل الفاتحة و الدعاء للحاضرين بالخير و الحب و السلم....لم تكن تهمني الكلمات في شكلها الخاص، بل بقدرة الموسيقى على السمو بالروح في عالم النسيان،بهذا الصفاء الذي يوحد بين المتناقضات....ماذا لو أطلق المسؤولين هذه النغمات على أفول المحتجين؟ كانوا حتما سيتنكرون لاحتجاجهم و احتياجاتهم، و لربما كانوا سيطالبون بدسترة خضوعهم حتى لا يستفيقوا من غيبوبة الموسيقى هذه....
جاء الدور على فنانتي المحبوبة،صعدت للحلبة بكل الوهج الأصيل،مسحت القاعة بعينيها و كأنها تمتن للحضور فردا فردا، هي تدري ربما أن نصف الحضور هنا، بدعوات مجانية، لكن في ضل الرداءة التي تخيم على مشهدنا الفني، يبقى الحضور في حد ذاته مكسبا منشودا.....
تكلمت عن المرأة الصوفية، و عن صفية الزاهدة، غنت لإبن عربي و الشوشتري،غنت الحبيب في الحشا و مشيه على الخد إن هو شاء....حملني صوتها القوي لعوالم فقدت فيها كينونتي،حاولت متايعة صولاتها الغنائية فانقطع نفسي....قرأت ذات حوار لها و هي تقول أن الصوت خام، و أن الغناء صنعة و أن الصراخ المصحوب بتعتيم الآلة الموسيقية ليس طربا....تعلمنا كريمة الصقلي أن الغناء هو دندنة فردية، فتسكت الآلة و تطلق الغناء لنهر الكوثر الفعلي، المنبعث من حنجرتها القوية ليعانق صفاء الكون في تجليه المطلق...
هل الحفل هو افتتاح لمهرجان الأغنية الصوفية؟ ما هي الأغنية الصوفية؟ هل هي الأغنية التي تمتح عناصرها من الدين الإسلامي وحده؟ أم أنها كل أغنية ترتل خلق الكون و تسكع الروح في زقاقه، و من منابع دينية مختلفة؟ إذ كان الأمر كذلك، فالافتتاح، مع جميل الاعتذار للمنظمين، كان شوفينيا و متطرفا، إذ لم يعكس لا ثقافة التعايش و التسامح بين الأديان التي تدعو لها الدولة، و لا فسيفساء المجتمع المغربي المتعدد الهوية الدينية،غابت الأغنية الروحية المسيحية ، و اليهودية، بمذاهبهم المختلفة...و حضر الإسلام وحده....
و أخيرا ماذا عن الإسلام؟هل هو المتجسد في هذا الصفاء الجميل، لإبن عربي و أللآيات المرتلة بأصوات ملائكية؟ أم هو ما يدعو له فقهاء دم الحيض و النفاس،و تجار الموت و التفجيرات.....
كم أنا مسلم في الأول....كم أنا مارق و كافر اتجاه الثاني...
تعليقات
إرسال تعليق