مع الرياضيات




للرياضيات سحر خاص،في تتبع لمسار نشوء هذه العلوم، تتبدى عبقرية الإنسان و جنونه،أن يكتشف و يختلق مفاهيم مجردة لإستعاب نواميس هذا الكون العجيب،بما يجعل منه مجموعة معادلات و تراكيب،يتناغم فيها الجذر بالأس بالقواسم المشتركة و بالتطورات الامنتهية و الخطية....
كنت في نهاية الطور الإعدادي من تعليمي العمومي،حيث يفترض علي التلميذ أن يختار نوع الدراسة التي يزعم إتباعها،و كنا نخير بين الشعب العلمية،و التي تُدرس فيها الرياضيات و العلوم الطبيعية و الفيزياء بشكل أساسي، مع القليل من المواد ذات النكهة الأدبية،اللغة العربية أساسا، و الاجتماعيات و الفلسفة و التربية الإسلامية، و بين الشعب الأدبية التي كانت تدرس نفس المواد تقريبا لكن بقلب واضح لمعامل الاهتمام، إذ كانت اللغة العربية و آدابها و الفلسفة و الاجتماعيات هي محور هذه الشعب...
اخترت شعبة الآداب، ليس لحبي لها و ضلوعي في موادها بقدر ما كان هروبا من الرياضيات و الفيزياء...
في السنة الأولى ثانوي، يتم إقرار اختيار ثاني، يوجه أصحاب شعبة الآداب للآداب الإنجليزية،أو العصرية أو يفتح لهم المجال لانعراج نحو العلوم الاقتصادية....و لأصحاب العلوم، نحو العلوم التجريبية و العلوم الرياضية و كذلك العلوم الاقتصادية...
أقسام العلوم الاقتصادية في السنة السادسة ثانوي، تظم خليطا من الذين آتوا إليها من شعبة الآداب و الذين قدموا إليها من شعبة العلوم، و كانت القاعدة الرديئة تقر بأن هذه الأقسام تظم النجباء في شعب الآداب و الكسالى في شعب العلوم...
كان أول احتكاك لي بالرياضيات، و بشكل مصيري، ذلك الذي حدث في السنة الثانية ثانوي، شعبة العلوم الاقتصادية....كنت أعتبر من المتفوقين في القسم السابق أي الأولى ثانوي شعبة آداب،لذا حشرت بين هذا الخليط....
الأستاذ الذي درسنا مادة الرياضيات غريب الأطوار،يجلس في المقعد الخلفي للقسم،بعد أن يكتب على السبورة نصف جملة لم أكن أفقه فيها شيئا، لكنها تفيد درس اليوم في هذه المادة اللعينة،و ينهمك في فسخ آليات الكترونية يجلبها معه من منزله، كثير من البراغي، و مكواة للحم قطع الغيار الصغيرة و غيرها....كان له شبه ورشة لإصلاح التجهيزات الالكترونية....علمت فيما بعد أنه كان يتابع دراسته في إصلاح هذه المعدات بواسطة المراسلة، و علمت أنه بعد تقاعده من سلك التعليم ، افتتح ورش صغير لإصلاح ذات المعدات....
في ذات الفصل،عرفت معنى الحب،حيث هِمت بحب زميلة لي في الفصل،و لم تكن وسائل الإغراء المتاحة حينئذ سوى التفوق الدراسي، أو العراك الجسدي،و لأنه لم تكن لي بنية جسدية تسمح لي بالانتصار في هذا الأخير، كان محتما علي الاهتمام أكثر بالتحصيل الدراسي....
أول الإخفاقات في هذا المضمار، كان مصدرها مادة الرياضيات، إذ أنه في الفرض الأول، و في عملية توزيع النتائج حسب ترتيب الاستحقاق، حصلت على ورقتي كآخر تلميذ، و بمعدل لا يتعدى الصفر من مجموع العشرين نقطة،و بتعليق ساخر للأستاذ ، مصلح المعدات الالكترونية،و بنظرات إشفاق من التلميذة المستهدفة و من الغريمين الكثيرين ، زملاء القسم....
كان السؤال البسيط لماذا لا استوعب هذه المادة؟؟ و ما العائق في عدم إدراكي لها؟ و هل للآخرين ملكات ذهنية غير التي أملكها؟؟ خمنت ربما أن إهمالي لهذه المادة في مستويات دنيا من تعليمي هو ما جعلني لا أستوعب دروسها الآن، و قررت أن أعيد دراستها من البدايات، أي منذ القسم الأول الابتدائي....
اقتنيت كل كتبها، و اعتكفت في غرفتي بقسم الداخلية،و أعدت بناء هذه المادة اللعينة منذ بدايات الحساب البسيط، لحين مقرر الباكلوريا علوم رياضية،اكتشفت سحر ها، و أصبحت دراسة هذه المادة متعة أكثر منها واجب....
خلال مدة إعادة البناء هذه ،كنت أعمد عدم الإجابة على الفروض، و كنت أحصل تبعا لذلك على نقطة الصفر المريحة، و كان الأستاذ يمدني بورقة الفرض و في عينيه الكثير من الاحتقار و الازدراء،و كانت الفتاة تشيح بوجهها عني ....
في لحظة معينة،وعند تمكني من كامل المستوى في هذه المادة، أجبت على أسئلة الفرض الموالي،بعد يومين،في حصة تصحيح الفروض،و قبل أن يدخل الأستاذ ، صرخ و هو لا زال في أول الممر المفضي للفصل،أن علي أن أقوم للسبورة كي أصحح الفرض....
قمت بذلك بكل ثقة في النفس،لم يقتنع الأستاذ، فطرح أسئلة عديدة في ذات المادة، الرياضيات الجميلة لا اللعينة،طاف على دروس مختلفة،و إشكالات معقدة...ثم سحب ورقة الفرض و هي تحمل علامة التفوق القصوى....
استفسرني عن سبب هذا التحول،فحكيت له قصتي ......
منذ ذلك الحين أصبحت الرياضيات صديقة الحياة لا الدراسة، كلما ضاقت بي دنيا ،التجئ لمعادلاتها التجريدية،بحثا عن اللامعنى في وجودها، و عن المعنى في  بناءها،لكنها تؤرقني بمنطقها المتعالي عن كل الحسابات بما فيها السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية....
ملحوظة:بالنسبة للفتاة،فقد كسبت رهان قلبها،و ارتبطنا زواجا، و أنجبنا طفلة و افترقنا تطليقا.....لم نجد معادلة رياضية تضبط هذه الفوضى....




تعليقات

  1. ذكرتني بالذي مضى
    اشتقت حقا للرياضيات والفيزياء، منذ سبع سنوات نسيتها تماما
    لكني سأفعل مثلك عما قريب،وسأبدأ من حيث أنهيتها
    :)
    حياتنا معادلات
    لكن الاكس فيها يبقى دوما مجهولا
    سلاموووو

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

همس في أذن جثة متعفنة

لماذا أنا مسلم غير ممارسpourquoi suis je un musulman non pratiquant

الصورة كإنجاز دبلوماسي وسياسي

السفارة في العمارة

الإستخفاف الموجب للمقاطعة

إرهاب العارف....في منع مشارف

بعد رصيف القيامة، قارعة الطريق ، للشاعر عدنان ياسين، تفاعلا مع 20 فبراير